الانتفاضة الشعبية في إيران... من لهيب دام ثلاث سنوات إلى منظور إقليمي
أكدت المحللة السياسية روزين موكرياني، إن الانتفاضة الشعبية التي شهدتها إيران في عام 2022 تشبه النهر الذي يسلك مسارات متعددة، وقد نجحت في تجسيد التضامن العابر للحدود الوطنية والرؤية الديمقراطية.
شهلا محمدي
مركز الأخبار ـ على مدار السنوات الثلاث الماضية، واجهت الانتفاضة الشعبية في إيران تحديات جسيمة، تراوحت بين القمع السياسي والقيود الاجتماعية، لكنها رغم ذلك تمكنت من الحفاظ على حضورها الفاعل في الساحة العامة، ولا تزال شعلة الانتفاضة متقدة في الفعاليات السياسية والمطلبية، ما يدل على ديناميكيتها واستمراريتها في التعبير عن تطلعات فئات واسعة من المجتمع.
تُعد الانتفاضة الشعبية التي شهدتها إيران خصوصاً بالنسبة للشعوب المهمشة كالكرد نموذجاً عابراً للحدود الوطنية، يتسم بطابع تقاطعي وتحرري، هذه السمات الثلاث منحتها تميزاً عن الانتفاضات السابقة في إيران، وأسهمت في قدرتها على الصمود والبقاء، في تقييم نقاط القوة تبرز قدرتها على التعبئة الشعبية، وتبنيها لقضايا متعددة تتقاطع مع حقوق المرأة، والعدالة الاجتماعية، والهوية الثقافية، أما نقاط الضعف فتتمثل في غياب القيادة المركزية، وتحديات التنظيم، إضافة إلى محاولات التشويه الإعلامي التي واجهتها، ورغم كل ذلك تواصل الانتفاضة لعب دور محوري في صياغة خطاب مقاوم يتفاعل مع الواقع الجديد في الشرق الأوسط، ويطمح إلى تجاوز المرحلة الراهنة نحو مستقبل أكثر عدالة وحرية.
التناقضات والمسألة الوطنية في إيران
وعن التناقضات والقضايا الوطنية في إيران قالت المحللة السياسية روزين موكرياني أن الانتفاضة الشعبية كشفت عن تناقضات المجتمع الإيراني واختلالاته، وخاصةً قضية القوميات داخل البلاد، على سبيل المثال، استطاعت إعادة النقاش القمع الوطني إلى طاولة المفاوضات، وأدت إلى حد ما إلى قبول وجود القضية الوطنية في إيران، مشيرةً إلى أن غياب الفهم المشترك لطبيعة المشكلة الوطنية وغياب الرؤية لحلها أدى إلى تفاقم الانقسامات وإضعاف التضامن النسبي، وقد استغلت الجمهورية الإسلامية هذه الفجوات، وعززت ووسعت نطاق القومية الإيرانية لا سيما في حرب الاثني عشر يوماً مع إسرائيل.
النظام الجديد والعلاقات الجدلية
أوضحت أن " الحديث عن نظام جديد يعني الاستفادة من التغيرات والابتكارات المستقبلية في عالم تُحدد فيه سلطة الدول وتتشكل فيه السياسة حول مفاهيم السيطرة والنفوذ، تكتسب العلاقات الجدلية بين الصديق والعدو أهميةً بالغة، إن النظام الجديد أي العلاقات والتعاون بين الأصدقاء والأعداء آخذٌ في التطور والتغير وتظهر المواقف والتحالفات والصراعات في هذه العملية، وهي تتبلور في بدايتها "نحن في مرحلة انتقالية ولم يتضح بعد كيف ستتشكل الصداقات والعداوات التي ستنشأ في المستقبل، هل تستطيع إيران بعد هذه الحرب أن تسلك مساراً واضحاً، في ظل الافتراضات المدنية الأساسية والآليات القائمة؟ هل سيكون اتخاذ القرار ممكنًا؟".
وأشارت إلى أن "كل هذا يقودنا إلى الحديث عن نظام جديد، لكن السؤال هو ما تأثير هذا النظام الجديد على حركة التحرر؟ لا بد من القول إننا نشهد في الواقع تحالفات تكتيكية وتيارات وإجراءات عملية من حكومات تسعى إلى ضمان بقاء الأنظمة خاصة الأنظمة الاستبدادية، تتشكل هذه الإجراءات لمواجهة القطب الآخر للانتفاضة الشعبية"، مؤكدةً أن هذه الانتفاضة قدمت منظوراً ديمقراطياً، وبصيص أمل لمستقبل معتدل وديمقراطي، حتى في مواجهة نظام جديد يسعى إلى إبعاد السياسة عن السلطة المركزية للدول.
النظام الجديد والتضامن العابر للحدود الوطنية والبيئة
وأكدت أن "النظام الجديد عرف على أنه يقوم على التضامن العابر للحدود الوطنية بين المجتمعات والأمم المختلفة، وعلى تحرير المرأة، وعلى البيئة أيضاً، والبيئة هي أحد العوامل المهمة التي تشكل هذا النظام الجديد والسؤال هنا ماذا ستفعل إيران؟ ماذا سيفعل العراق؟ مع وجود مشاكل وعيوب في هذا المسار، تعود كردستان إلى الواجهة كنقطة حساسة وذات مكانة خاصة لماذا؟ لأن النزاع بين الدول الأربع، إيران وتركيا وسوريا والعراق، لا يزال قائماً على مجرى نهري دجلة والفرات، السؤال هو أي دولة ستتحكم في تدفق المياه ومواردها إيران، تركيا، أم سوريا؟ هذه قضايا خارجة عن سيطرتنا عملياً، وقد تكون لها عواقب وخيمة ومنطقية على حياة الناس".
ردود الفعل الشعبية والصورة المثالية للحركة
فيما يتعلق بردود الفعل الشعبية، قالت روزين موخرجياني "إن ردود الفعل الشعبية والمطالب المنطقية للمجتمع هي نفسها الانتفاضة الشعبية، ما نراه اليوم هو تأثير هذه الانتفاضة على حياة الشعب الإيراني وفي مجتمعات مختلفة في بلوشستان، وفي أنحاء مختلفة من أفغانستان، وحتى في أجزاء من الهند، وهذا يخلق صورة مثالية للأمل والحرية، على عكس الصورة التي تحاول الأنظمة الجديدة والقوى الإقليمية فرضها على الشعب".
طبيعة الانتفاضات والتغيرات العقلية
وعن طبيعة الانتفاضة الشعبية أضافت " الأمل الذي تمنحه لنا هذه الانتفاضة، يظهر أنه من الممكن أن نتخيل مستقبلاً ديمقراطياً ومتعدد الأبعاد، مستقبل يعكس قيم ومبادئ حركة الحرية، هذه الانتفاضة مستمرة، تشبه جريان نهر يتخذ مسارات متعددة، يتوقف أحياناً ويتسع أحياناً أخرى، تبعاً للظروف والعوائق، طبيعتها تصاعدية، وتغيراتها فكرية وثقافية أكثر منها سياسية أو هيكلية بحتة".
ولفتت إلى أنه عندما يتم الحديث عن التغيرات العقلية "فإننا نعني رؤية عالمية وإرادة جماعية هذه الرؤية هي الوعي الجماعي الحاضر في حياة الناس اليومية، في الأسرة وفي العلاقات بين الرجال والنساء، وفي التفاعلات بين المجتمعات المختلفة، تسعى هذه الانتفاضة إلى تغيير هذه الهياكل الهرمية والجامدة، وإفساح المجال للوعي والمشاركة الجماعية، وبعبارة أخرى نستطيع القول أن هذه التغييرات تسعى إلى كسر الهيمنة والأنماط الراسخة وخلق فرص متساوية وحريات حقيقية في الحياة الاجتماعية للناس".
روح التغيير وحدود تغيير النظام
وشددت على أن "ما يجب مراعاته هو أننا في مرحلة نواجه الاستراتيجيات السائدة إذا تحقق جانب من هذا التغيير أو إذا كان لا يزال مستمراً، فالسؤال هو لماذا لم تتغير بعض الأمور؟ هذا سوء فهم لطبيعة التغيير، لأن التغيير الحقيقي متبادل بطبيعته مع تغيير النظام، عادةً ما يحدث تغيير النظام بسرعة، وغالباً ما تكون التغييرات مجرد مساعي وهياكل سطحية، بينما يبقى النظام والأطر الأساسية على حالها"، مشيرةً إلى أن الجوانب الأعمق هي روح التغيير "ما ذكرته في خطوات سابقة هو أنها عملية مركبة، متعددة الطبقات، ومستمرة، وتتطلب وقتاً وجهداً جماعياً لتتجسد، لا تزال روح التغيير هذه فاعلة، وأعتقد أنها قادرة على تشكيل مسار التطورات المستقبلية والتأثير على السياسات الحكومية".
وحول أهمية المنطقة ومواردها الطبيعية، قالت روزين موخرجياني "بعد هذه الفترة ستظهر منطقة جديدة ومختلفة تماماً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، تُعد هذه المنطقة من أكثر مناطق العالم حساسيةً من حيث الموارد ونقصها، وتتأثر بالاستراتيجيات الاستبدادية والاحتياجات الديموغرافية، في ظل هذه الظروف ستُمثل الوقائع الجديدة ونقص الموارد اختباراً قاسياً لقدرة المجتمعات على مواجهة التحديات وتحقيق تغييرات جذرية".
ولفتت إلى أنه من النادر أن "نجد بلداً ديمقراطياً بحق حتى في أسسه النظرية والبنيوية، ومع ذلك تبرز في الحركات المحلية والشعبية قيمٌ بارزة كالجماعة، والشعبية، والمرونة، والتعاون، والتضامن، هذه القيم تُقرّ، بطريقة ما بالتعددية الثقافية والسياسية وتُعزّزها"، مضيفةً أن الانتفاضة الشعبية سعت إلى ربط هذه الهياكل والتفاعلات بطريقة دقيقة، دون فرضها من الخارج، هذا الربط بين المحلي والكبير، أي بين المجتمع الصغير والمجتمع العالمي هو ما تسعى إليه الانتفاضة "تُعطينا هذه الانتفاضة منظوراً يُظهر إمكانية دمج هذين المجالين، شريطة احترام التعددية، والحفاظ على التفاعلات السليمة، والتركيز على التضامن، والتركيز على أن النقاش والحوار وحدهما لا يكفيان".
وأوضحت أن الانتفاضة قامت على التركيز على الاختلاف والاعتراف المتبادل، وقد أظهرت للعالم كيفية تحقيق التعايش من خلال هذه الاختلافات، حتى تاريخ هذه الحركة وجذورها قائمان على هذا الأساس، فقيمها تُعارض أي نوع من التنميط، وتُصرّ على الحق في الاختلاف.
وأكدت أنه من هذا المنطلق، إذا وجدت في قلب إيران أو بين شعوب بلاد فارس رؤى وتصورات مختلفة عن حركة التحرر، فهذا أمر طبيعي، لأن الانتفاضة ترى وتعترف بالاختلافات الثقافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية، تولي اهتماماً كبيراً للتنوع، حتى في إنتاج المعرفة، وتحترم وجهات النظر المختلفة في العالم، وتقبل أنماط الحياة المتنوعة، وتسعى الانتفاضة الشعبية إلى خلق مساحة لتعلم التعايش السلمي، في عالم لا يرفض فيه الناس بعضهم بعضاً، بل يقبلون إمكانية العيش بشكل مختلف، ولكن معاً، وهذا يشمل أشكالاً مختلفة من الحياة، بل وحتى أساليب حكم مختلفة".
وشددت روزين موكرياني في ختام حديثها على أنه "في نظري، لا تقتضي الانتفاضة بالضرورة فرض نموذج سياسي موحد على المجتمع الإيراني بأكمله، بل ينبغي أن تُمنح المجتمعات والأمم المختلفة حرية اختيار الشكل السياسي الذي يتناسب مع ثقافتها واحتياجاتها، فمثلاً إذا رأت إحدى الأمم أن الديمقراطية غير المباشرة تلائمها أكثر، فلها الحق في تبنيها وفي المقابل، إذا كانت الديمقراطية المباشرة أكثر انسجاماً مع تطلعات شعب كردستان، فأن اعتمادها يعد خياراً مشروعاً هذه النماذج المختلفة من الحكم يمكن أن تتعايش جنباً إلى جنب، ضمن إطار مشترك يجمعها، وهو النظام الكونفدرالي، الذي يضمن التنوع السياسي ويعزز مبدأ الإدارة الذاتية دون المساس بوحدة المجتمعات".